المســــاء السيد حنفي

وكأن المساء خيّال
يمتطي صهوة الزمن
يسابق رياح الهموم
تصارعه الأنواء
تسابقه الدموع
تهرول ملامح الصمت خلفه
يستبق الخطوات
يرقى فوق حلم كسول
يدق أجراس الغد المذبوح
تتصاعد الألحان جنائزية من موسيقى الروك
يرقص الزمن مرتبكا
يكبو
يسقط المساء
ينفرط على خد السماء نجوما
وكأن المساء عاشق
يحلق في الفضاء الورقي
يداعب ألوان الشمس الناعسة
يرشق شعرها بزهرات بكر عطرها
يستنهض النهار الغافي خلف المقل
يمر بين البنايات القديمة
يتسلل إلى رداء الشمس
يلثم ما بقي من جسدها بكرا
تصفعه بحريقها
يتكور في حضن السماء بدرا
وكأن المساء شاعر
تفيض حروفه بزخرف الهوى
يسحب الوجع من ليالي الخريف
يسامر العشاق تحت ظل الفراق
يخبو, ويسطع, ثم يحتجب
والدموع تنهمر
والقلوب تختنق
والهوى يتأرجح بين أنامل الوداع
يصير المساء مجرد ذكرى على راحة السماء
وكأن المساء راحل
يفر من زيف النقوش الحجرية
من ألوان باهتة
من نغمات ساقطة من ايقاع رتيب
ينشطر بين الليل وبقايا الصباح
يضيع بين أمسيات تضج بالنواح
يصير المساء عدودة يترنم بها الزمان المنهزم
وكأن المساء شاهد
كان الثرى عند حدوده عشبا
ينبض قمحا, زهرا, ماء
حين أحرقوا النهار بالظلام
لم يجد المساء مأوى بين الأيام
هاجر المساء من قلبي
سكن كهفا بجوف السماء
وكأن المساء قبر
أخاف من دفء الجفاف داخله
من الأكفان الخالية من الزهور
من أشباح تحاسبني على خطايا البشر
من مخاض تاريخ الدماء البشرية
فالموت ليس موتي, وهذا القبر لم يكن لي
لكن المساء حين سقط من عين حبيبتي
قبرني تحت أسوار مدينتي المحطمة
وكأن المساء غابة
ينأى عنها القمر
يغرق في ضباب الأسى
تذوب أمانيه في إرتعاشات المطر
تتثاءب العصافير عند حدوده
ورفاقه الموتى يغنون لعار الشروق
لافتضاح أمر البشر
فما هناك نهار جديد
إلا وقد اغتال من المساء عطر الهوى
وكأن المساء زهرة
كانت قبلات الحبيبة تعطر أوراقه حتى السحر
كان ينتشي حين ينام بين كفيها
مصفد بالآمال الوردية
تهمس شفتيها بألوان العشق
تعانق لحظة الشفق
يرقص المساء حتى يفيض نجوما
ويغني حتى يرتوي القمر
كان المساء زهرة
قبل أن يشرع الليل سيوف القهر
ويغتال ليالي السمر
وكأن المساء ناسك
لا تحمل خطايا البشر فهم لا يستحقون
دعهم يقطّعون أوصالك ليبتروا عفن الجسد الإنساني
تشبث بصليبك بقوة الألم
خطواتك المنهكة هي البدء على طريق الخلاص
جسدك الهزيل يحمل أوجاع البشر
ترى من يحمل دموعك
من يدرك أن الخلاص كان يكمن في نظرة عينيك الى السماء
في ارتعاشة كفيك وقت الدعاء
في لمسة حب على كتف الأصدقاء
من يعلم ذلك غير المساء
احمل صليبك الآن…
لتتمخض ألمك قبل رحلة الاصطفاء
وكأن المساء يبكي
حين يرصد من نوافذ المدينة
نجمه الأوحد يقتل
ويباغته الليل من خلفه
يسحق أفول النهار
يرتعد المساء من برودة وحدته
يسير بطيئا خلف الشمس الهاربة
يصدمه الجبل
يسقط في قاع الوادي المقدس
نسي أن يخلع نعليه
فلم يبلغ بالرسالة
المساء لم يهوى الشمس
ولم يحب يوما القمر
المساء كان يحب أن يرى العشاق يتسامرون في ظله
قبل أن يغتال الشعراء من جوفه لون الشجر
المساء كان يعلم زيف النهار وكذب الظلام
لكنه كان مخدوعا مثل بقية البشر
حين صدق أن الحقيقة خلف الجبل
هل كل حقيقة يجب أن تكون في الدبر
وكأن المساء مأدبة
تولم الطيور على جراحه
يستنزف الليل رحيقه
يسرق النهار سكونه
يرتمي على صدر البحر
تختبئ رائحة اليود في الحلم القديم
يمتطي الموج صهوة الرياح
تدق أجراس المطر
يصحو المساء من غفوته
متأرجحا بين طغيان الليل وفلول النهار
وكأن المساء بين ضفتين
لا يستطيع أن ينام في السحر
يقتله الانتظار
يختبئ حينا في سماء حزينة
وحينا تسقطه الأمطار
وحينا أجده في أغنية باكية
ينشده الصوت القديم
فيسقط صارخا بين ساعات الليل
ألملمه, أوسده في لحد الكلمات
وكأن المساء برعم
يقبع بين ثديي شمس خائنة
تضاجع النهار في بحور الشعر
تلد القوافي مهملة
ثم تصفده في كهف الليل
يخجل من نظرات السماء
يعانق في قلبي الأنين
يخرج مهزوما
راكعا للنهار
وكأن المساء آهة..
لا يصدأ الصباح الطويل من هز الصدى
الصياح, البكاء, الغناء, النداء..
أو المطر..
وحين تنسكب السماء على الطين
تزهر العيون الخضراء في المقل
يعدو المساء غريبا
ينطوي خلف الربى
حتى يصيح داعي السفر
يسقط المساء على السماء.. مطر
وكأن المساء قنديل
تمر حوله الليالي دون أن تهديه ورد الغروب
يقبع النهار تحت قدميه يقظا حتى السكون
رتاج الأبواب طلاسم
والموت يوشم الحدود
حين يطل المسافر من بين أضلع الموج
يظن المساء أن وهجا يحتضر على الجرح
يبتسم ألما
يتحشرج ضوءه
ينثني ظله كهلا على كف السماء
وكأن المساء في قلبي
طفلا اغتالته الضحكات في زمن عفن
عشقا هدمته العبارات من قلب حجر
أغنية ثكلى تنعي الوطن
حبيبة تائهة تعب الاشتياق
وكأن المساء في قلبي مات

شاهد أيضاً

“مايحيرني دائما “قصيدة للشاعر أحمد عايد .

ما_يحيِّرني_دائما ما يُخوِّفني حين اُلقي السَّلام عليكِ وأرحلُ: أنَّ الوحيد يخافُ الوجعْ ما يُطمئنني كلما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

14 + 17 =