صدر كتاب “كابتن غزالي.. شاعر المقاومة وذاكرة الوطن” للكاتب الصحفي والناقد الأدبي محمد حسن مصطفى في طبعته الثانية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر عام 2018م، وقد ضم ثلاثة فصول جاءت عناوينها متتالية على هذا النحو: “أوراق تجربة نضالية”، “الشعر والمقاومة”، “إحنا.. ولاد الأرض”.
جاء الكتاب في مجموع ما ضمه من فصول .. احتفالية احترافية مجدولة من الحب والفكر والموضوعية، لم ترتكز على مجرد لملمة أوراق مبعثرة من الذكريات والحكايا هنا وهناك، يبدو هذا جليًا منذ مفتتح الكتاب في تقدمة الدكتور علي السويسي أستاذ الفنون والعمارة الراحل والتي عنونها بـ “نِفْسي في وطن” وهي اقتباس من كلمات الشاعر الراحل كابتن غزالي والذي سرد من خلالها المسيرة الحياتية لغزالي الذي نزح والده القنائي الجذور إلى السويس ليسكن منطقة أقرب للبيئة الصعيدية في حي “الجناين” على أطراف المدينة، ثم حكى المشوار التعليمي والرياضي والعملي للكابتن وظروف تعرفه عليه، ثم عرج إلى اللحظة الفاصلة التي صنعت غزالي أو صنعها غزالي ليحفر في النهاية اسمه على صفحات النضال الوطني ومبدعي فنون المقاومة.
يقدم الأستاذ محمد حسن عبر المدخل أو الفصل الأول مبرراته ودوافعه التي قادته لدراسة تجربة “ولاد الأرض” من الناحيتين الذاتية والموضوعية، والتي من أهمها استعادة تلك المرحلة النضالية الفارقة في تاريخنا المصري الوطني المجيد، والتحام السوايسة مع منتوج هذه الفرقة بشكل صار يختزل التاريخ في لحظة امتدادية ماضية راهنة في آن تسمح باستدعائه في الغناء والترديد بحسب المواقف اليومية والموسمية في حياتهم وحياة السويس.
كما أن المعايشة الحياتية للكاتب مع الكابتن غزالي، الراحل جسدًا والباقي ذكرًا، جعلت لزامًا عليه تخليد هذه التجربة تاريخًا يُعاش في عقول وقلوب القادمين، وهو دأبه ودأب أجيال من المثقفين الذين يتنافسون في نفس المضمار، حيث شَكَّلَ الموقع الجغرافي لهذه الفرقة أثره في نفوس متابعيها؛ فقد جسَّدت النضال فنًا ومكانا، لأنها لم تصدح بأغانيها خارج أسوار المدينة المحارِبة بل تحمل السلاح نهارًا ثم تعود إلى خندقها النضالي بزيها العسكري دلالة على معايشتها للوطن الذي تدافع عنه صباحًا وتغنيه مساءً، مما جعلها تصنع دائرة من ديمومة النضال الذي بدأ منها قاعدة له تتصل مع القمة “ناصر/ القائد”، ثم تنتشر أفقيًا مع الفرق الفنية الصديقة الناقلة لأغانيها في كل مصر، كما تتواصل مع أغلب المثقفين والفنانين والشعراء من مصر والوطن العربي.
أبحر الكاتب في رحلة ماتعة بين الشعر والمقاومة ليضع كابتن غزالي وفرقة ولاد الأرض على خريطة الشعر المقاوم في العالم، حيث يرى أن تجربتها لا تقل عن تجارب مرت في تاريخ النضال الشعبي والثوري في دول أخرى توزعت بين قارات عديدة غير أنه تناول الثورة الفرنسية تحديدًا بإسهاب، خالقًا حالة من التوازي بين تجاوب الجنرال ديجول ومجموعة من الشعراء الفرنسيين مثل “بول إيلوار” الرائد السيريالي والإشتراكي “لويس أراغون”، وبين التجاوب الإيجابي بين الرئيس جمال عبد الناصر وفرقة ولاد الأرض، كما تعرَّض الكاتب للحركة النقدية تجاه شعر المقاومة عالميًا ومحليًا عبر دراسات نقدية وأدبية رصينة ضد من يرفضون وضع شعر المقاومة داخل النسق الإبداعي الشعري الراقي، غير أنه يحسم الجدل بانحيازه لهذا الشعر الذي يرى أن رسالته ووظيفته الفكرية والنضالية أهم وأرقى مليون مرة من الوظيفة الجمالية.
حشد الكاتب في الفصل الثالث من كتابه موضوعات تجمع بين السياحة الأدبية والفنية الماتعة فيما أورده من نصوص، وبين القراءة التاريخية المتعمقة للأحداث التي دارت حولها؛ فقد سلط الضوء على الفرقة نفسها، وكيفية نشأتها فكرة انبثقت في عقل غزالي الذي أوجدها واقعا، ثم تاريخها الذي انشطر قسمين في مرحلة هامة وفاصلة في تاريخ مصر، والتواصل الإبداعي بين الفرقة وانعتاقها من تأليف كلماتها التي استدعتها من المخزون التراثي تارة، ومن محاولات الغزالي نفسه ومن معه من الشعراء تارة أخرى، إلى الإبداع الجديد لكبار الشعراء المصريين.
كما تطرق الكاتب إلى أسلوب فرقة ولاد الأرض بكابتنها “غزالي” في اتخاذ المواقف الصادمة مع المتغيرات الاجتماعية التي شهدتها مصر بعد الحرب، ومحاولة شد المجتمع بأسره إلى اليقظة والانتباه والحذر ودق أجراس الخطر أن هناك على الناحية الأخرى من الوطن عدو ينتظر، كما جاءت لسعات السخرية من الفرقة في أغانيها متوازية مع البكاء المر على شهداء السويس.
لقد أبدع الأستاذ محمد حسن مصطفى عملا أدبيا، تاريخيا، سياسيا، وطنيا، فكريا بامتياز.. على الرغم من عدد الصفحات التي لم تتجاوز المئة والأربعين صفحة من الحجم المتوسط، غير أنه عايش التجربة النضالية للفرقة الفارقة في تاريخ مصر والمقاومة في العالم، كما أن ما ي.شهد للرجل هو استيعابه أيضًا للحظة التاريخية التي حاول أن يستعيدها من بين أنياب الأيام حتى لا تفترسها من حاضرنا كما افترست لحظات مفصلية وألقتها في زاوية الإهمال فالنسيان، ولهذا حرص أن يضم كتابه نصوصًا لأغنياتٍ شدت بها فرقة ولاد الأرض مازالت تشع نورًا متوهجًا في ذاكرة الأجيال التي مضت والجيل الحالي آملا أن يسلموا شعلة “ولاد الأرض” التي توهجت من نور ونار كابتن غزالي فكرة انقدحت في ذهنه ثم انطلقت في قلوب وعلى ألسنة الملايين .. ولن تموت.